عالم التصوير والمعرفة الفن طائر يحلق في سماء الشعوب، فيجعلها تشع بالجمال والنور، فلا حضارة بلا فن ... ولا ينبت شعب عظيم بلا ابداع جديد ... الفن شمس تنير حياتنا!

فكلما نهضت الفنون من ارحام الأوطان، وكلما صرخ فنان بإبداعه، تأكدنا ان هذه الارض ما زالت خصبة ومثمرة.

هذا ما شعرت به عندما شاهدت لوحات الفنان الفلسطيني «محمد قريقع»، الصغير في عمره (لا يتجاوز 13 ربيعاً)، الكبير بإبداعه، الذي يدفعك الى التأمل والتفكير، فتسأل: كيف لهذه الانامل الصغيرة ان تحفر بخطوطها مشاهد من الذاكرة تلهب الوجدان!

كل لوحة تجسد فكرة، موقفاً، حدثاً. وكل مشهد جسدته ريشته عزف لحناً حزيناً على وجوه الأطفال ذوي العيون الشاحبة، التي يسكنها اليأس، وتجهدها كهولة مبكرة، قبل ان تتفتح وتتذوق رحيق الحياة. ما يميز «قريقع» أن لديه نظرة عميقة في التعبير والمزج بين المدارس الفنية كالسريالية والواقعية والتعبيرية، وأنه خلق جواً ابداعياً مدهشاً، يكاد يقفز لينطق بإحساسه ويعبر عن معاناة الشعب الفلسطيني، جراء الحصار والازمات والحروب الإسرائيلية ضده، والصعوبات التي يوجهها اللاجئون اثناء محاولاتهم الفرار من جحيم الحرب في سورية، فهو تناول أيضاً في جانب من معرضه أزمة اللاجئين السوريين، ومن بينها حكاية طفل سوري عالق فوق الأسلاك الشائكة على حدود احدى الدول الاوروبية، لتكون ريشته منبراً لمعاناة عشرات آلاف المهاجرين السوريين الذين يحاولون الوصول إلى وطن يحميهم!

وبرغم العراقيل والسدود التي شُيِّدتْ لوأد إبداعه، وكسره قبل أن يحلّق، من قبل السلطات الإسرائيلية، كمنعه من السفر لعرض لوحاته على عدد من الدول الاوروبية، ليوصل رسالته عن وطنه المثخن بالجراح وصرخات الألم التي تفيض من حناجر اللاجئين السوريين على العالم ... الا أنه تحدى الاحتلال، واقام معرضه بالتعاون مع بلدية مدينة غزة، في قرية «الفنون والحرف» التابعة للبلدية، تحت عنوان «طير حر»، أملا في ان يجوب به العالم في وقت لاحق، معبراً عن معاناة وطنه، وعن كل مواطن حر في غزة. ويستمر يحلق في سماء الابداع رغم الحصار، فلم يكتفِ «قريقع» بإقامة معرضه في غزة، بل افتتح على هامشه موقعاً الكترونياً خاصاً، يتضمن بثاً مباشراً لمعرضه بتقنية عالية ... يا له من مقاوم صغير!

يذكرني «قريقع»، بصموده واصراره وموهبته، بالفنان «المخيف الرائع، ذي الحدس العظيم والتجربة المأسوية، سريع الصراخ طافح بالطعنات»، رسام الكاريكاتير ناجي العلي، كما وصفه الشاعر محمود درويش، مبدع شخصية «حنظلة» الخالدة، صاحب الريشة اللاذعة الفذة منذ نعومة أظافره، التي رشقها في جدران زنزانته في معتقل الاحتلال الإسرائيلي، وهو لا يزال صبياً في مقتبل عمره، الى ان انطلق سهم ريشته الجريئة لتفضح الألسن المتلونة، فهو من أهم الفنانين الفلسطينيين الذين صنعوا ريادة التغيير السياسي، باستخدام الفن كأحد اساليب التكشيف، فكان يقول:«نكون أو لا نكون، التحدي قائم والمسؤولية تاريخية» ... نعم المسؤولية تاريخية، وقد حملها بعده الطائر الصغير «قريقع».

في الحقيقة راية الفن، بجميع ألوانه واشكاله، هي ما يشكل وجدان الشعوب ويعبر عن شؤونها وشجونها، والفنانون الشرفاء هم الوقود الذي ينير الطريق، حتى لو أحرقتهم نيران الغدر وشراسة الحروب سطع نتاجهم وقدح شرارة للتغير، فـ «قريقع» شرارة ضوء جديدة انطلقت لتنضم إلى سرب مبدعي هذه الارض الولّادة من فنانين وادباء وشعراء.

فالفنون بجميع أصنافها ارقى وسائل التواصل بين الشعوب على مر العصور، إنها الانتاج الاعظم من الموروث الحضاري. فليكن تواصلنا راقياً بدلا من أن يكون دامياً، ولندعم «قريقع» ليحلق ابداعه في فضاءات اوسع.

«على هذه الأرض ما يستحق الحياة: هتافات شعب لمن يصعدون الى حتفهم باسمين، وخوف الطغاة من الأغنيات.

على هذه الارض ما يستحق الحياة: على هذه الأرض سيدة الأرض، أم البدايات أم النهايات. كانت تسمى فلسطين. صارت تسمى فلسطين. سيدتي: أستحق، لأنك سيدتي، أستحق الحياة».

هكذا نصرخ مع شاعر الثورة والوطن محمود درويش.

أمل الرندي

كاتبة كويتية Amal.randy@yahoo.com

أحدث أقدم