عالم التصوير والمعرفة
- يقول أحد الروائيين (في التسعينيات ... وبعد انتهائي من تقديم مسوّدة إصداري الجديد الذي أسرد فيه قصتي العجيبة مع الاغتراب في أوربا، جلستُ مطوّلاً مع نفسي أتخيّل ردود فعل القراء على روايتي وتفاعلهم مع غرائبها ومفارقاتها وتناقضاتها وسيرورة الأحداث المتلاحقة فيها، وطبيعة التناغم بين القارئ وبين الخطوط العامة للقصة وتفرّعاتها، كنتُ أودّ أن أعرف إلى مدى يفهم القارئ ما أريد أن أقوله، وكيف شعرتُ طوال معايشتي للأمور التي مرت بي، وطبيعة تأثير الشخصيات الرئيسية على مجرى الأحداث، استغرقتُ مطوّلاً في التفكير وثمة شعور يراودني .. هناك شئ ناقص!
خلال الأيام التالية وقع بين يديّ صندوق مُغبَّر ولم تسعفني الذاكرة في تخمين محتوياته، تكبدّتُ عناء نفض الغبار عنه ثم كشف الستار على محتوياته، ففوجئتُ بألبومات صورٍ قديمةٍ تعودُ لبداية فترة إقامتي في أوروبا، سرقتني الألبومات من نفسي وسرحتُ معها بعيداً ومع كل صورةٍ أعودُ للزمان والمكان والرائحة والإحساس وخصوصية الموقف. عند مشاهدتي لبعض الصور لَمَعَت في ذهني فكرةٌ ومالبثت أن استحوذت عليّ تماماً ! إن هذه الصور تربطها علاقةٌ مفصليةٌ بالأحداث الرئيسية للقصة، ومن يراها سيشعر بكلماتي أكثر، ويفهمها بشكلٍ أوضح، ويقترب من المعاناة ويلمسها ويستشعرها بشكلٍ أعمق، يجب أن تكون هذه الصور موجودة في الرواية، ويجب أن أعمل بدقةٍ شديدة على توصيف كل صورةٍ للقارئ كي تتناغم مع السياق العام.
بعد صدور الرواية دُهشتُ من الاهتمام الكبير الذي لَقِيَتهُ الصور المختارة ! لقد نَشَرَتها عدة مجلاتٍ كموضوعٍ رئيسيّ ! ومعها مقتطفات من الرواية، وتحليلات وقراءات نقدية وتجاذبات للرأي ومشاركات من القراء وغير ذلك. لقد استأثرت الصور بالوهج الإعلامي أكثر من غلاف القصة المرسوم، ومن العنوان، لقد مَنَحَت القصة للصور زخماً كبيراً وتأثيراً عميقاً وأبعاداً إنسانية متباينة يراها كل قارئٍ حسب إدراكه وتموّجاتِ خياله).
ليست هذه التجربة الوحيدة التي تُثبتُ ضرورة حضور الصورة لاستكمال المعنى للأعمال الأدبية، فالنماذج كثيرة ومختلفة، إن العمل الأدبي يُبنى من بلاغة الكلمة وروعة التعبير وجزالة الألفاظ وحبكة السرد القصصيّ، والعديد من العوامل الأخرى التي يجيد الروائيون نسجها وتنفيذها، لكن الصورة باعترافهم تعزف لحن النهاية السعيدة باكتمال الفكرة والمعنى وتجذير الأثر في ذاكرة القارئ.
إرسال تعليق
التعليق الذي يحتوي على تجريح أو إتهامات لأشخاص أو مؤسسات لا ينشر ونرجو من الأخوة القراء توخي الموضوعية والنقد البناء من أجل حوار هادف