عالم التصوير والمعرفة
- تكاد تكون حاسة البصر من أولى الحواس التي تتذوّق ماهية الجمال منذ الطفولة، حيث العين تفرّق بين ما يلفتها ويثير فضولها ودهشتها وإعجابها، وبين ما يزعجها ويثير نفورها. إنَّ كل مشهدٍ نراه يترك انطباعاً فورياً لدى عقولنا ومشاعرنا، وقد يبقى هذا الانطباع كما هو، وقد يعمل العقل على معالجته بعد مناقشة الانطباع الأول، وصنع روابط ذهنية جديدة تمنحه معنىً أو معاني مختلفة.
إن أي مهتمٍ بالتعامل مع الكاميرا مهما كانت دوافعه أو أهدافه أو طريقة تفكيره، لديه فلسفة ما تخصّ الجمال البصري وأضداده، ومن الطبيعي أن تعزّز ممارسته للتصوير من عمق علاقته بهذه الفلسفة ومنحها معالم وملامح أوضح وبناء شخصيةٍ مستقلةٍ لها. ومن ناحيةٍ أخرى تتوسّع المدارك الجمالية للمصور من خلال مخالطته لمجتمعات المصورين على اختلاف مشاربها الذوقية، فيسمع ويناقش ويرى ماهو مألوف وماهو غريب تماماً عليه. لكنه مع كل فلسفةٍ جماليةٍ جديدةٍ يسمع بها، يخطو خطوةً جديدةً على سلّم الإبداع البصري وفهم المكوّنات المرئية المحبّبة للناس وأساليب فهمهم وتناولهم لها.
بعض المصورين لديهم نضجٌ كافٍ من حيث الذائقة الجمالية – من وجهة نظرهم – يستدلّون على ذلك بإنجازاتهم وجوائزهم وشعبيتهم وبعض الأدلة الأخرى. نحن نعتقد أن هذه النقطة بالذات هي بحرٌ شواطئه يصعب اعتمادها رسمياً! والتجربة تثبت أن من يبحر مجدّداً في هذا الاتجاه سيكتسب المزيد من المعطيات والآفاق والقيم الجمالية التي تثري رصيده الفني وتمنحه قدرةً أكبر على اشتقاق لفتاتٍ جمالية خاصة ولمس أبعادٍ جديدة من الرونق البصري المحيط به.
إن مسألة الجمال لا تؤمن بالكأس الممتلئة بل تميل للعطش المتجدّد التوّاق لكل النكهات الجمالية البشرية التي يستحيل الإحاطة بها، وليس من المرغوب به لدى معشر المصورين فكرة نضوبها يوماً ما، فذلك يجري عكس تيّار مخيّلتهم وخلايا التذوّق الفني الخاصة بهم، ويعتبرون وفرة العناصر الجذّابة المجهولة التي لم تُكتشف بعد، وقوداً ثميناً لروائعهم التي لم تبصر النور !
إن الاكتفاء من ثقافة الجمال على تنوّع مكوّناتها، وهمٌ يؤذي من يعتنقه، ويعاقبه بالمحدودية والانغلاق وضيق الأفق وصعوبة التماشي مع متغيّرات الأيام. إن عقلك ينمو مع كل فكرةٍ تتناول ماهية الجمال، سواءً كانت مشاعرك تقبلها وتهفو لها أم ترفضها وتنفر منها. إياك ورفع شعار الاكتفاء إذا كنتَ تطمحُ لعلاقةٍ طويلة الأمد مع الإبداع.
إرسال تعليق
التعليق الذي يحتوي على تجريح أو إتهامات لأشخاص أو مؤسسات لا ينشر ونرجو من الأخوة القراء توخي الموضوعية والنقد البناء من أجل حوار هادف